فصل: الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة الأولى فيما يحتاج الكاتب إلى معرفته من مواد الإنشاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة الأولى فيما يحتاج الكاتب إلى معرفته من مواد الإنشاء:

وفيه ثلاثة أطراف:

.الطرف الأول فيما يحتاج إليه من الأدوات:

ويشتمل الغرض منه على تسعة عشر نوعا:

.النوع الأول: المعرفة باللغة العربية:

وفيه أربعة مقاصد:

.المقصد الأول في فضلها وما اختصت به على سائر اللغات:

أما فضلها فقد أخرج ابن أبي شيبة بسنده إلى أمير المؤمنين عمر نب الخطاب رضي الله عنه أنه قال: تعلموا اللحن والفرائض فإنه من دينكم. قال يزيد بن هارون: اللحن هو اللغة. ولا خفاء أنها أمتن اللغات وأوضحها بياناً، وأذلقها لساناً، وأمدها رواقاً، وأعذبها مذاقاً؛ ومن ثم اختارها الله تعالى لأشرف رسله، وخاتم أنبيائه، وخيرته من خلقه، وصفوته من بريته، وجعلها لغة أهل سمائه وسكان جنته، وأنزل بها كتابه المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
قال في صناعة الكتاب: وقد انقادت اللغات كلها للغة العرب، فأقبلت الأمم إليها يتعلمونها.
وأما ما اختصت به على غيرها من اللغات، فقد حكى في صناعة الكتاب أنها اللغة التامة الحروف، الكاملة الألفاظ، لم ينقص عنها شيء من الحروف فيشينها نقصانه، ولمن يزج فيها شيء فيعيبها زيادته؛ وإن كان لها فروع أخرى من الحروف فهي راجعة إلى الحروف الأصلية؛ وسائر اللغات فيها حروف مولدة، وينقص عنها حروف أصلية: كاللغة الفارسية: تجد فيها زيادة ونقصاناً. وكذلك يوجد فيها من الأسماء ما لا يوجد في الفارسية وغيرها: كالحق والباطل، والصواب والخطإ، والحلال والحرام، فلا ينطق به أهل تلك الأمم اختصاصاً من الله تعالى وكرامة بها؛ ومن خصائصها أن يوجد فيها من الإيجاز ما لا يوجد في غيرها من اللغات. قال: ومن الإيجاز الواقع فيها أن للضرب كلمة واحدة فتوسعوا فيها، فقالوا للضرب في الوجه ضرب على وجهه. قال في المثل السائر: حضرت مع رجل يهودي عارف باللغات فجري ذكر اسم الجمل فقال: لا شك أن العربية أوجز اللغات، فإن اسم الجمل بالعبرانية كومل فسقط منه الواو وحولت الكاف إلى الجيم. قال أبو عبيد: وللعرب في كلامها علامات لا يشركهم فيها أحد من الأمم كعلامة إدخالهم الألف واللام في أول الاسم، وإلزامهم إياه الإعراب في كل وجه مع نقلهم كل ما احتاجوا إليه من كلام العجم إلى كلامهم؛ فقد نقل ما قالت حكماء العجم والفلاسفة إلى العربية ولم يقدر أحد من الأمم على نقل القرآن إلى لغته لكمال لغة العرب. على أن الكثير من الناس حأولوا ذلك فعسر عليهم نقله، وتعذرت عليهم ترجمته؛ بل لم يصلوا إلى ترجمة البسملة إلا بنقل بعيد.

.المقصد الثاني في وجه احتياج الكاتب إلى اللغة:

لامرية في أن اللغة هي رأس مال الكاتب، وأس كلامه، وكنز إنفاقه؛ من حيث إن الألفاظ قوالب للمعاني التي يقع التصرف فيها بالكتابة؛ وحينئذ يحتاج إلى طول الباع فيها، وسعة الخطو، ومعرفة بسائطها: من الأسماء والأفعال والحروف، والتصرف في وجوه دلالتها الظاهرة والخفية: ليقتدر بذلك على استعمالها في محالها، ووضعها في مواضعها اللائقة بها، ويجد السبيل إلى التوسع في العبارة عن الصور القائمة في نفسه فيتسع عليه نطاق النطق، وينفسح له المجال في العبارة، وينفتح له باب الأوصاف فيما يحتاج إلى وصفه، وتدعو الضرورة إلى نعمته، فيستظهر على ما ينشيه، ويحيط علماً بما يذره ويأتيه؛ إذ المعاني وإن كانت كامنة في نفس المعبر عنها فإنما يقوى على إبرازها وإبانتها من توفر حظه من الألفاظ، واقتداره على التصرف فيها: ليأمن تداخلها وتكريرها المهجنين للمعاني- وناهيك أن ابن قتيبة لم يضمن كتابه أدب الكاتب غير اللغة إلا النزر اليسير من الهجاء، وأبا جعفر النحاس ضمن كتابه صناعة الكتاب جزءاً وافراً من اللغة، وأبا الفتح كشاجم لم يزد في كتابه كنز الكتاب على ذكر الألفاظ وصورة تركيبها.

.المقصد الثالث في بيان ما يحتاج إليه الكاتب من اللغة:

ويرجع المقصود منه إلى خمسة أصناف:
الصنف الأول: الغريب:
وهو ما ليس بمألوف الاستعمال، ولا دائر على الألسنة؛ وذلك أن مدار الكتابة على استخراج المعاني من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، والشعر؛ وألفاظها لا تخول عن الغريب؛ بل ربما غلب الغريب منها في الشعر على المألوف لا سيما الشعر الجاهلي. وقد قال الأصمعي توسلت بالملح ونلت بالغريب. قال صاحب الريحان والريعان: والغريب، وإن لم ينفق منه الكاتب فإنه يجب أن يعلم ويتطلع إليه ويستشرف؛ فرب لفظة في خلال شعر أو خطبة أو مثل نادر أو حكاية؛ فإن بقيت مقفلة دون أن تفتح لك، بقي في الصدر منها حزازة تحوج إلى السؤال، وإن صنت وجهك عن السؤال، رضيت بمنزلة الجهال. وقد عاب ابن قتيبة جلاً كتب في وصف برذون: وقد بعثت به أبيض الظهر والشفتين. فقيل له: هلا قلت في بياض الشفتين أرثم المظ! فقال لهم: فبياض الظهر، قالوا لا ندري، فقال: إنما جهلت من الشفتين ما جهلتم من الظهر. وذم قوماً من وجوه الكتاب بأنه اجتمع معهم في مجلس فتداركوا عيب الرقيق فلم يكن فيهم من يفرق بين الوكع والكوع، ولا بين الحنف والفدع، ولا بين اللمى واللطع ثم قال: وأي مقام أخزى لصاحبه من رجل من الكتاب اصطفاه بعض الخلفاء، وارتضاه لسره، فقرأ عليه يوماً كتاباً فيه مطرنا مطراً كثر عنه الكلأ، فقال له الخليفة ممتحناً له: وما الكلأ؟ فتردد في الجواب، وتعثر لسانه ثم قال: لا أدري؛ فقال: سل عنه قال أبو القاسم الزجاجي في شرح مقدمة أدب الكاتب: وهذا الخليفة هو المعتصم والكاتب أحمد بن عمار، وكان يتقلد العرض عليه؛ وكان المعتصم ضعيف البصر بالعربية؛ فما قرأ عليه أحمد بن عمار الكتاب وسأله عن الكلإ فلم يعرفه، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! خليفة أمي، وكاتب عامي؛ ثم قال: من يقرب منا من كتاب الدار؟ فعرف مكان محمد بن عبد الملك الزيات، وكان يقف على قهرمة الدار فأمر بإشخاصه، فلما مثل بين يديه، قال له ما الكلأ؟ قال: النبات كله رطبه ويابسه، فإذا كان رطباً قيل له خلاً، وإذا كان يابساً قيل له حشيش، وأخذ في ذكر النبات من ابتدائه إلى اكتهاله إلى هيجه، فقال المعتصم ليتقلد هذا العرض علينا. ثم خص به استوزره.
فقد ظهر أن معرفة الغريب من الأمور الضرورية للكاتب التي هي من أهم شأنه، وأعنى مقاصده. وجل كتب اللغة المصنفة في شأنها راجعة إليه، كصحاح الجوهري، ومحكم ابن سيده، ومجمل ابن فارس وغيرها من المصنفات التي لا تكاد تحصى كثرة، والصحاح أقربها مأخذاً، والمحكم أمثلها طريقة، وأكثرها جمعاً، وأكملها تحقيقاً. وقد صرف قوم من المصنفين العناية من ذلك إلى الاقتصار على ذكر الأسماء والأوصاف: كأوصاف الرجال والنساء المحمودة والمذمومة، وما يختص من ذلك بالرجل والنساء، وأوصاف الذكور والإناث منها؛ وأوصاف الوحوش: من السباع والظباء والوعول والبقر والحمر الوحشيين؛ وأسماء الطير: من الجوارح الصائدة والطيور المصيدة، وبغاث الطير كالرخم، وصغاره كالنحل والجراد؛ وأوصاف الهوام كالحشرات: من الحيات والوزغ ونحو ذلك؛ وأوصاف العلويات: من السماء والسحاب والرياح والأمطار، والأزمنة: كأوقات الليل والنهار، وأوقات الشهر وفصول السنة ونحو ذلك؛ وأسماء النبات: من الشجر البري كالطلح والأراك، والبستاني كالنخل والعنب؛ والنبات البري كالشيح والقيصوم؛ وأنواع المرعى، وأسماء الأماكن: من البراري والقفار، والرمال والجبال والأحجار، والمياه والبحار والأنهار والعيون والسيول، والرياض والمحال والأبنية، وأسماء جواهر الأرض: من اليواقيت ونحوها؛ وسائر مستخرجات المعادن، كالنحاس والرصاص وما يجري مجراها؛ ومستخرجات البحر: من اللؤلؤ والعنبر والمرجان وغيرها؛ وأسماء المأكولات: من الحبوب، والفواكه، والأطعمة المصنوعة والأطبخة، وأسماء الأشربة: كالماء، واللبن، والعسل، والخمر، وأسماء السلاح: من السيوف، والرماح، والقسي، والسهام، والدروع وغيرها؛ وأسماء اللباس: من الثياب على اختلافها؛ وأسماء الأمتعة، والآن ية وسائر الآلات؛ وأسماء الطيب: من المسك، والند، والغالية، والزعفران، وما أشبهها. وكذلك كل ما يجري هذا المجرى. وكفاية المتحفظ لابن الأجدابي، والمذهبة والمعقبة لابن أصبغ كافلتان بالكثير من ذلك. وفي أدب الكاتب لابن قتيبة وفقه اللغة للثعالبي الجزء الوافر من ذلك.
وصرف آخرون عنايتهم إلى التأليف في الأفعال وتصاريفها كابن درستويه وغيره. وفي فصيح ثعلب جزء وافر من ذلك؛ ولعصرينا الشيخ مقبل الصرغتمشي النحوي كتاب زاد فيه عليه جمعاً ووضوحاً.
الصنف الثاني: الفروع المتشعبة في المعاني المختلفة:
وهي فروع كثيرة متسعة الأرجاء، متباينة المقاصد، لا يكاد يجمعها مصنف، وإن كان الكاتب لا يستغني عن شيء منها، ولا يحسن به تركه.
منها المتباين والمترادف. فأما المتباين فهو ما دل لفظ الكلمة منه على خلاف ما دلت عليه الكلمة الأخرى، كالسواد والبياض، والطول والعرض؛ ويحتاج إليه في التعبير عن المعاني المختلفة لاتساع نطاق الكلام. وأما المتراف فهو المتوارد الألفاظ على مسمى واحد كالأسد والسبع للحيوان المفترس، والتثنية والقلوص للناقة، ونحو ذلك. ويحتاج إلى معرفة ذلك للمخلص عند ضيق الكلام عليه في موضع لطول لفظه أو قصرها أو اختلاف وزنها في شعر، أو رعاية الفاصلة آخر الفقرة في نثر، أو غير ذلك مما يضطر فيه إلى إيراد بعض الألفاظ بدل بعض، كما في قوله:
وثنية جاوزنها بثنية ** حرف يعارضها جنيب أدهم

فإنه أراد بالثنية الأولى العقبة، وبالثنية الثانية الناقة، والجنيب الأدهم استعارة لظلها. فالثنية من حيث وقوعها على الناقة والعقبة أوفق للتجنيس من الناقة، إذ لو ذكر الناقة مع الثنية التي هي الطريق لفاته التجنيس. ومحل الكلام عليهما كتب الفقه ونحوها.
ومنها الحقيقة والمجاز. والحقيقة هي اللفظ الدال على موضوعه الأصلي كالأسد للحيوان المفترس، والحمار للحيوان المعروف. والمجاز هو ما أريد به غير الموضوع له في أصل اللغة، كالأسد للرجل الشجاع بعلاقة الشجاعة في كل منهما، والحمار للبليد بعلاقة البلادة في كل منهما؛ ويحتاج إليه لنقل الألفاظ من حقائقها إلى الاستعارة والتمثيل والكناية لما بينهما من العلاقة والمناسبة، كاليد فإنها في أصل اللغة للجارحة أطلقت على القوة والنعمة مجازاً، من حيث إن القوة تظهر في اليد والنعمة تولى بها ومحل ذكرهما أصول الفقه وما في معناها.
ومنها الألفاظ المتضادة وهي التي تقع كل لفظة منها على ضد ما تقع عليه الأخرى كالأمانة والخيانة، والنصيحة والغش، والفتق والرتق، والنقض والإبرام، ونحو ذلك فإن الكلام كثيراً ما ينبني على الأضداد وربما غلط الكاتب فجعل مقابل الشيء غير ضده فيلزمه النقص في صناعته، وفوات ما يقصده من المقابلة والطباق اللذين هما من أحسن أنواع البديع. وفي صناعة الكتاب لأبي جعفر النحاس جملة صالحة من ذلك، وفي كنز الكتاب لأبي الفتح كشاجم جملة جيدة منه أيضاً.
ومنها تسمية المتضادين باسم واحد كالجون للأسود والأبيض، والقرء للطهر والحيض، والصريم لليل والنهار، ووراء لخلف وقدام، ونحو ذلك. ويحتاج إليه للتمييز بين الحقائق التي يقع اللبس فيها. وفي أدب الكاتب جملة من ذلك.
ومنها المقصور والممدود كالندى للجود وندى الأرض، والحفا لكلال القدم والحافر؛ والممدود كالسماء للفلك وكل ما علاكن والبقاء لضد الفناء، ونحو ذلك، ما يجوز فيه المد القصر جميعاً كالزناء والشراء وما أشبههما. ويحتاج إليه الكاتب من ثلاثة أوجه: أحدها أن الدلالة تختلف باعتبار المد والقصر كلفظ الهوى فغنه إن قصر كان بمعنى هوى النفس، وإن مد كان بمعنى ما بين السماء والأرض. الثاني أنه إذا أضيف الممدود أضيف المقصور في الكتابة في حالة الرفع وزيادة ياء في حالة الخفض، وإذا أضيف بزيادة واو في الكتابة في حالة الرفع وزيادة ياء في حالة الخفض، وإذا أضيف المقصور لم يحتج إلى زيادة واو ولا ياء؛ ولو كان مما يجوز فيه المد والقصر، جاز فيه بعض حركاته. وبما يمد كالبلاء والقلاء، فإنه إذا كسر أولهما قصرا وكتبا بالياء وإذا فتح مداً وكتبا بالألف. وكالباقلاء فإنه إذا خفف مد وإذا شدد قصر، فمتى لم يعرف الكاتب ذلك كان قاصراً في صناعته؛ وفي أدب الكاتب من ذلك جملة.
ومنها المذكر والمؤنث فإنه تختلف أحواله باعتبار التذكير والتأنيث في كثير من الأمور؛ وذلك أن المؤنث على ضربين: أحدهما ما فيه علامة من علامات التأنيث الثلاث، وهي الهاء نحو حمزة وطلحة، والألف الممدودة نحو حمراء، والألف المقصورة نحو حبلى. وضرب لا علامة فيه وإنما يؤخذ من السماع: كالسماء، والأرض، والقوس، والحرب، وما أشبهها. وربما كان منه ما يجوز فيه التذكير والتأنيث كالطريق، والسبيل، والموسى واللسان، والسلطان، وما أشبهها؛ فإن من العرب من يذكر ذلك ومنهم من يؤنثه. وربما وقع لفظ التأنيث على الذكر والأنثى جميعاً كالسخلة والحية والحمامة والنعامة والبطة ونحوها. وأيضاً فإن من وصف المؤنث ما يحذف منه الهاء باعتبار تأويل آخر كصيغة فعيل: فإنه إن كان بمعنى مفعول كقتيل بمعنى مقتول وخضيب بمعنى مخضوب، حذفت الهاء من مؤنثه: فيقال امرأة قتيل وكف خضيب وما أشبه ذلك، وإن كان بمعنى فاعل كعليم بمعنى عالم ورحيم بمعنى راحم، تثبت الهاء في مؤنثه، فتقول فيه عليمة ورحيمة. وعلى العكس من ذلك فعول فإنه إن كان بمعنى فاعل كان بغير هاء نحو امرأة صبور وشكور بمعن المحلوبة، والركوبة بمعنى المركوبة؛ وصيغة مفعل مما لا يوصف به الذكور تكون بغير هاء كامرأة مرضع، فإن أرادوا الفعل قالوا مرضعة؛ وصيغة فاعل مما لا يكون وصفاً لمذكر تكون بغير هاء أيضاً نحو امرأة طالق وحامل، وربما حذفت الهاء مما يكون للمذكر والمؤنث جميعاً فتقول امرأة عاقر ورجل عاقر. وفي أدب الكاتب وفصيح ثعلب جملة من ذلك. وفي كتب النحو المبسوطة قواعد موصلة إلى مقاصده.
ومنها المهموز وغير المهموز؛ فإن المعنى قد يختلف في اللفظ الواحد باعتبار الهمز وعدمه: كما تقول عبأت المتاع بالهمز، وعبيت الجيش بغير همز، وبارأت الكري بالهمز من الإبراء، وباريت فلاناً من المفاخرة بغير همز. وتقول زنى من الزنا بغير همز، وزنا في الجبل إذا رقي فيه ونحو ذلك. وربما جاء الهمز وعدمه في الكلمة الواحدة كما تقول شئت بالهمز وشيت بإسكان الياء من غير همز ونحو ذلك. فمتى لم يكن الكاتب عارفاً بالهمز ومواضعه ضل ي طريق الكتابة. وفي أدب الكاتب باب مفرد لذلك.
ومنها ما ورد من كلام العرب مزدوجاً كقولهم الطم والرم، يريدون بالطم البحر وبالرم الثرى، وكقولهم الحجر والمدر، فالحجر معروف والمدر التراب الندي ونحو ذلك. فإذا عرف الكاتب ذلك تمكن من وضعه في مواضعه لتحسين الكلام وتنميقه في الطباق والمقابلة؛ وفي أدب الكاتب نبذة من ذلك.
ومنها ما ورد من كلامهم مثنى إما على سبيل التغليب: كقولهم القمران يريدون الشمس والقمر، والعمران يريدون أبا بكر وعمر، وإما على الحقيقة: كقولهم ذهب منه الأطيبان، يريدون الأكل والكاح واختلف عليه الملوان أو الجديدان، يريدون الليل والنهار، ونحو ذلك؛ وفي أدب الكاتب أيضاً طرف منه.
ومنها ما ورد من كلام العرب مرتباً كقولهم أول النوم النعاس، وهو الاحتياج إلى النوم؛ ثم الوسن، وهو ثقل النعاس؛ ثم الكرى والغمض، وهو أن يكون بين النائم واليقظان؛ ثم التغفيق، وهو النوم وأنت تسمع كلام القوم؛ ثم الإغفاء، وهو النوم الخفيف؛ ثم التهجاع، وهو النوم القليل؛ ثم الرقاد، وهو النوم الطويل؛ ثم الهجوع، وهو النوم الغرق، ثم التسبيخ، وهو أشد النوم، وما أشبه ذلك، وفي فقه اللغة للثعالبي قدر صالح من ذلك.
ومنها ما ورد من كلامهم مورد الدعاء: إما على بابه..... استأصل الله شأفته يريدون أذهب الله أثره كما يذهب أثر الشأفة، وهي قرحة تخرج من القدم فتكوى فتذهب؛ وقولهم أباد الله خضراءهم، أي سوادهم ومعظمهم. أولم يقصد به حقيقة الدعاء، كقولهم تربت يداك، أي ألصفت بالتراب من الفاقة، وقولهم أرغم الله أنفه، أي ألصقه بالرغم، وهم لا يقصدون به الدعاء. وفي أدب الكاتب جملة من ذلك.
ومنها ما تختلف أسماؤه مع المشابهة في المعنى كالظرف للإنسان، أو الحافر للفرس والبغل والحمار، والظلف للبقر، والمنسم للبعير، والبرثن للسباع، وما يجري هذا المجرى. وفي فقه اللغة جزء وافر منه.
ومنها ما تختلف أسماؤه وأوصافه باختلاف أحواله كالكأس لا يقال فيه كأس إلى إذا كان في شراب وإلا فهو قدح، ولا مائدة إلا إذا كان عليها طعام وإلا فهي خوان، ولا قلم إلا كان مبرياً وإلا فهو أنبوبة، ولا خاتم إلا وفيه فص وإلا فهو فتخة ونحو ذلك؛ وفي فقه اللغة جملة منه.
ومنها معرفة الأصول التي تشتق منها الأسماء كتسمية القمر قمراً لبياضه، إذ الأقمر هو الأبيض، وكتسمية ليلة الرابع عشر من الشهر ليلة البدر لمبادرة الشمس القمر بالطلوع، أو لتمامه وأمتلائه حينئذ من حيث إن كل تام يقال له بدر؛ وكتسمية النجم نجماً، أخذاً من قولهم نجم إذا طلع ونحو ذلك، وفي أدب الكاتب جملة من ذلك.
ومنها ما نطقت به العجم على وفق لغة العرب، لعدم وجوده في لغتهم وهو المعرب كالكف والساق والدلال والوزان والصراف والجمال والقصاب والبيطار وما أشبه ذلك؛ وفي فقه اللغة جزء من ذلك كاف.
ومنها ما اشترك فيه العربية والفارسية، كالتنور، والخمير، والدينار، والدرهم، والصأبون، وما أشبه ذلك؛ وفي فقه اللغة أيضاً نبذة منه.
ومنها ما اضطرت العرب إلى تعريبه واستعماله في لغتهم من اللغة العجمية كالكوز، والإبريق، الطست، والخوان، والطبق، وغيرها من الآن ية؛ والسكباج، والزيرباج، والطباهج، والجوذاب، ونحوها من الأطعمة؛ والجلاب، والسكنجبين، ونحوهما من الأشربة؛ والخولنجان، والكافور، والصندل، وغيرها من الأفاويه، والطيب ونحو ذلك؛ وفي فقه اللغة من ذلك جملة جيدة. إلى غير ذلك من الأمور التي لا يسع استيفاؤها مما في أدب الكاتب وفقه اللغة الكثير منه.
ومنها ما تعددت لغاته؛ ولتعلم أن لغة العرب متعددة اللغات متسعة أرجاء الألسن بحيث لا تساويها في ذلك لغة. فمن ذلك ما فيه لغتان كقولهم رطل بكسر الراء وفتحها وسَم وسُم بفتح السين وضمها؛ وما فيه ثلاث لغات مثل برقُع بضم القاف وبرْقَع بفتحها وبُرْقُوع بضم الباء وزيادة الواو، وخاتِم بكسر التاء وخاتَم بفتحها وخَيْتام؛ وما فيه أربع لغات مثل نَطْع بكسر النون وفتحها وسكون الطاء ونَطَع بفتح النون والطاء جميعاً وكسر النون، وصَدَاق بفتح الصاد وصِدَاق بكسرها وصُداق بضمها وصُدْقة بضم الصاد وسكون الدال؛ وما فيه خمس لغات كقولهم رِيح الشَّمال بفتح الشين من غير همز؛ والشَّمْأل بالهمز، والشَّامَل بغير همز، والشَّمَل بفتح الميم، والشَّمْل بسكونها؛ وما فيه ست لغات كفُسْطاط بضم الفاء، وفِسْطاط بكسرها، وفُسْتاط بضم الفاء وإبدال الطاء تاء، وفِسْتاط بكسر الفاء، وفُسَّاط بضم الفاء وتشديد السين، وفِسَّاط بكسر الفاء؛ وما فيه تسع لغات كالأَنْملة بفتح الهمزة وضمها وكسرها مع فتح الميم وضمها وكسرها؛ وما فيه عشر لغات كالأصبع بفتح الهمزة وضمها وكسرها مع فتح الباء وضمها وكسرها والعاشر أُصبْوع. وفي أدب الكاتب جملة من هذا النمط.
الصنف الثالث: الفصيح من اللغة:
واعلم أن اللغة العربية قد تنوعت واختلفت بحسب تنوع العرب واختلاف ألسنتهم؛ والذي اعتمده حذاق اللغة وجهابذة العربية من ذلك ما نطق به فصحاء العرب، وهم الذين حلوا أوساط بلاد العرب، ولم يخالطهم من سواهم من الأمم كثير مخالطة، ولم يصاقبوا بلاد العجم فبقيت ألفاظهم سالمة من التغيير والاختلاط بلغة غيرهم: كقريش، وهذيل وكنانة، وبعض تميم، وقيس عيلان، ونحوهم من عرب الحجاز، وأوساط نجد. بخلاف الذين حلوا في أطراف بلاد العرب، وجاوروا الأعاجم فتغيرت ألفاظهم بمخالطتهم: كحمير، وهمدان، وخولان، والأزد: لمجاورتهم بلاد الحبشة، وطيء وغسان: لمجاورتهم بلاد الروم بالشام، وبعض تميم، وعبد القيس: لمجاورتهم أهل الجزيرة وفارس.
واعلم أن التغيير يدخل في لغة العب من عدة وجوه: منها أن تبدل كلمة بغيرها: كما يستعمل أهل اللغة الحميرية ثب بمعنى اجلس، وهي في عامة لغة العرب للأمر بالطفرة. قال القاضي الرشيد في شرح أمنية الألمعي: وربما غلبت العجمة على أحدهم حتى لا يفهم عنه شيء.
ومنها أن تبدل حرفاً من الكلمة بحرف آخر: كما تبدل حمير كاف الخطاب شيناً معجمة فيقولون في قلت لك قلت لش؛ وربما أبدلوا التاء أيضاً كافاً فيقولون في قلت قلك، وكما تبدل ربيعة الباء الموحدة ميماً فيقولون في بكر مكر ونحو ذلك، وكما يبدل بعض العرب الصاد المهملة بالسين المهملة فيقولون في صابر سابر، وكما يبدل بعضهم الطاء المهملة بتاء مثناة فوق فيقولون في طال تال وتسمع من عرب أهل الشرق كثيراً، وكما يبدل قول التاء المثناة فوق بضاد معجمة فيقولون في أتر أضر.
ومنها أن يعاقب بين حرفين في الكلمة كما يقول بعضهم في بلخ فلخ، وفي أصبهان أصفهان.
ومنها أن يأتي بحرف بين حرفين فيأتون بكاف كجيم فيقولون في كمل جمل. قال ابن دريد: وهي لغة في اليمن كثيرة في أهل بغداد ويأتون بجيم ككاف على العكس من الأول فيقولون في رجل ركل يقربونها من الكاف، ويأتون بشين معجمة كجيم فيقولون في اجتمعوا اشتمعوا، ويأتون بصاد مهملة كزاي فيقولون في صراط زراط، ويأتوت بجيم كزاي فيقولون في جابر زابر، ويأتون بقاف بين القاف والكاف المعقودة، قاله ابن سعيد عن سماعه من العرب؛ ولا يكاد يوجد منهم من ينطق بها على أصلها الموصوف في كتب النحويين. وقد ذكر الشيخ أثير الدين أبو حيان ذلك جميعه في شرحه على تسهيل ابن مالك.
الصنف الرابع: ما تلحن في العامة وتغيره عن موضعه:
بأن يكون مفتوح الأول والعامة تكسره: كقولهم في جَفْن العين بفتح الجيم جِفْن بكسرها؛ أو مفتوح الأول والعامة تضمه: كقولهم في القَبُول الذي هو خلاف الردّ قُبُول بضمها؛ أو مكسور الأول والعامة تفتحه: كقولهم في دِرْهم بكسر الدال دَرْهِم بفتحها؛ أو مكسور الأول والعامة تضمه: كقولهم في التِّمساح بكسر التاء تُمساح بضمها، أو مضموم الأول والعامة تفتحه: كقولهم في العُصْفور بضم العين عَصْفور بفتحها؛ أو مضموم الأول والعامة تكسره: كقولهم في الظُّفُر بضم الظاء ظِفر بكسرها؛ أو مفتوح الوسط: كقولهم في القالَب بفتح اللام قالِب بكسرها؛ أو مكسور الوسط والعامة تفتحه: كقولهم في الرجل المُوَسْوِس، والبُرِّ المسّوِّس، والجبن المدوِّد بكسر الواو في الثلاثة: مُوسوس ومُسّوَّس ومدوَّد بفتحها؛ أو مضموم الوسط والعامة تفتحه كقولهم في الجُدُد جمع جديد جُدَد بفتحها؛ أو محرك الوسط والعامة تسكنه: كقولهم في التُّحَفة بفتح الحاء وتُحْفة بإسكانها؛ أو ساكن الوسط والعامة تحركه: كقولهم في الحلْقة بإسكان اللام حَلَقة بفتحها؛ أو مشدداً والعامة تخففه: كقولهم في العاريَّة بتشديد الياء عارِيَة بتخفيفها؛ أو مخففاً والعامة تشدده: كقولهم في الكرَاهِيَة بتخفيف الياء كراهيَّة بتشديدها؛ أو مهموزاً والعامة تحذف الهمز من أوله. كقولهم في الإهليلج بإثبات همزة في أوله هليلج بحذفها؛ أو مهموز الوسط والعامة تسهله: كقولهم في المرءاة بإثبات الهمزة مراة بحذفها، أو غير مهموز الأول والعامة تثبت الهمزة في أوله: كقولهم في الكرة، أكرة؛ أو كان بالظاء المعجمة فجعلته بالضاد المعجمة كالوظيفة ونوها، أو بالضاد فجعلته بالظاء: كقول بعضهم في البيضة بيظة، أو بالذال المعجمة فجعلته بالدال المهملة كالذراع؛ أو كان بالجيم فجعلته بالتاء المثناة فوق: كقولهم في دخاريص القميص تخاريص، ونحو ذلك مما شاع وذاع وفي أدب الكاتب لابن قتيبة نبذة من لحن أهل المشرق، وكتاب تثقيف اللسان لابن مكي التونسي موضوع في لحن أهل الغرب، وفصيح ثعلب مشتمل على كثير من هذا المقصد.
الصنف الخامس: الألفاظ الكتابية:
وهي ألفاظ انتخبها الكتاب وانتقوها من اللغة استحساناً لها وتميزاً لها في الطلاوة والرشاقة على غيرها. قال الجاحظ ما رأيت أمثل طريقة من هؤلاء الكتاب، فإنهم التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعراً حوشياً، ولا ساقطاً سوقياً. وقد ذكر ابن الأثير في المثل السائر: أن الكتاب غربلوا اللغة وانتقوا منها ألفاظاً رائقة استعملوها.
ثم هذه الألفاظ أسماء وأفعال: فالأسماء كقولك في المدح فلان غرة القبيلة، وسنامها، وذؤابتها، وذروتها؛ وهو نبعة أرومته وأبلق كتيبته ومدرة عشيرته ونحو ذلك والأفعال كقولك في إصلاح الفاسد: أصلح الفاسد، ولم الشعث، ورأب الشعب، وضم النشر، ورم الرث، وجمع الشتات، وجبر الكسر، وأسا الكلم، ورقع الخرق، ورتق الفتق، وشعب الصدع. وفي كتاب الألفاظ لعبد الرحمن بن عيسى الكاتب كفاية من ذلك، وله مختصر أربى عليه؛ وفي كنز الكتاب لكشاجم ما فيه مقنع.